يا مطر صبّي صبّي

أغنية شعبية من عمر الطفولة نتذكّرها كلما تساقط مطر الشتاء، بنغمات قصيرة وسريعة وكلمات تعكس تاريخاً من الظلم الاجتماعي والتفاؤل بتغيّر الحال والحكّام. في لحن محبب لقلبي أغني للمطر كلما تساقطت بشدة: ٬

يا مطر صُبّي صُبّى
صُبّي على حوش القبي
والقبي ما عنده عشي
غير خبيزة بالترشي
يا مطر يا بشباشة
صُبّي على حوش الباشا
والباشا ما عنده شيّ
غير خبيزة بالشِّشي

وأتذكر مع نقرات حبّاتها أحد كتبي المفضلة في طفولتي، للكاتب الليبي سالم سالم شلابي بعنوان “تذكرة إلى عالم الطفولة”. لم أستطع تصوير غلاف الكتاب لما طرأ له من اهتراء، ليس بسبب الإهمال بل من كثرة تصفحي له وتقلبيها واللعب به في طفولتي. هذا الكتاب هو الذي علّمني الكثير من الأغاني الشعبية لعالم الطفولة، ومن خلاله وصلني تراث وتاريخ بلدي منذ العهد العثماني والاستعمار الإيطالي. من خلاله -وأنا أمضي معظم وقتي داخل بيتنا في المدينة- تعرّفت على أسماء حشرات الريف بلهجتنا، وما يُغنى حين تمطر، وعند عاشوراء، والميلود، ومن خلاله أحببت الشيشباني والبوسعدية وتألمت للطوير الأخضر وفهمت أن عجوزة القايلة خيالٌ مشاكس.

رجعت لقراءة كتابي المفضل الذي صار ألذ وأجمل عند قراءته في النضج. يحكي الكتاب خلفيات أغاني الطفولة الشعبية وقصصها وأساطيرها ويلخص أهم الألعاب التي مارسها الأطفال بين الأزقة والحارات والسواني. ومن أكثر الأغاني تفضيلاً في الكتاب هي أغنية المطر. لم أنتبه يوماً إلى ما تشير له أغنيتنا للمطر حتى عدت لقراءة صفحات شلابي عنها مؤخراً. ولم أشعر بمقدار حنيننا لسقوط المطر وعطش ودياننا وحقولنا واختفاء الميزاب والماجن من محكيّتنا حتى عدت لأغنية المطر.

من كتاب “تذكرة إلى عالم الطفولة”، سالم سالم شلابي، 1986

غالباً ما نتغنى بالمقطع الأول فقط من أغنية “يا مطر صبي صبي” أما البقية فيبدو أنها صارت تختفي وتُنسى مع الأجيال الجديدة. يقول شلابي أن الأطفال كانوا يستقبلون المطر بالغناء والرقصات تحت قطراتها، ويرسم فنانو الكتاب “فؤاد الكعبازي وعبد العظيم عبد الرحيم” فتيات بضفائر يمسكن بأيدي بعضهن أمام بيوت من طين ونخيل ويرقصن.

يحلل شلابي أنّ هذه الأغنية القديمة من أيام العهد العثماني كانت تذكيراً بشعور الليبيين بالظلم وانتقاداً للطبقة الحاكمة ونتائج الطبقية على المعيشة. فالقُبّي الذي نغني عنه يشير “للمواطن البسيط الكادح الذي يعيش على كسرة الخبز والطبيخ الذي لا يعدو أن يكون من البطاطس أو القرعة أو الفول المهروس وهو ما يسمى (بالترش) في اللهجة العامية” كما يذكر الكتاب.

أما الباشا فهي التسمية التي تطلق على أصحاب السلطة فترة الحكم العثماني الذين يتفوقون عن “القبي” بمعيشة أكثر رخاءاً، ويملكون وفرة الطعام الفاخر الذي يلخص في “الشِّشي” وهو اللحم الذي لا يناله المواطن البسيط.

إذاً تُذكّر المطر المواطن البسيط بغياب العدالة في الحياة، إذ أنّ المطر يصبّ على الجميع ويروي الحقول والمحاصيل وينعش موارد البلد، بينما لا تنعكس خيراته بالتساوي على أهل البلد الذين تجمعهم أمطار واحدة.

أشارك صفحات من أغنية المطر التي عاشت في ذاكرتنا سنوات طويلة ومرت خلال حقبات تاريخية حاسمة وبقيت تعبّر دوماً عن هذه الحالة من المشاعر المختلطة بالفرح والحزن التي تمر بنا حين تسقط الأمطار، إذ ربما نتذكر ذات الحال التي تحويها الأغنية من معارضتنا لغياب العدالة والتفاؤل بتغيّر الحال وقدوم الخيرات مع الأمطار.

كيف قرأت مئة كتاب في 2022؟

لم أتوقع أن ينتهي العام وأنا أكتب تدوينة بهذا العنوان، بعد انقطاع طويل عن القراءة لم أكن أطمح سوى بإرجاع عادة القراءة في حياتي اليومية. وأكتب الآن هذه التدوينة بعد قراءة 119 كتاباً منذ يناير 2022. سابقاً، كانت قراءة كتاب واحد في الشهر إنجازاً كافياً لأسعد به، حتى استطعت في أحد شهور هذا العام قراءة 18 عشر كتاباً وعرفت طعماً جديداً للإنجاز. بعد خوفي من فقدان قدرتي على التركيز في القراءة والانسجام بها، تعلمت مهارات قراءة جديدة، وصرت أسابق نفسي في إتمام الكتب التي أحب الواحد تلو الآخر.

 بدت لي السنة كسلسلة طويلة من الكتب المربوطة ببعضها، آخر صفحة بأول صفحة في كتاب جديد. وكما كتب أفونسو كروش في رواية الرسام تحت المجلى ”آخر صفحة من كتاب هي أول صفحة من الكتاب الذي يليه“. 

أكتب في هذه التدوينة عن عامي الملئ بالقراءة، وكيف استطعت رغم الانشغالات والسفر أن أحافظ على ارتباطي بالكتب معظم أيام السنة. حصيلة هذا العام تنوعت بين الأدب والكتب الفكرية والتاريخية والدينية. لم أملك خطة قراءة محددة، إنما بدأت بأهداف صغيرة.

عدت لأول مرة منذ سنوات لشغف القراءة الذي امتلك أيام مراهقتي ولم أتخيل يوماً أنني سأعود إليه. كيف حدث كل ذلك؟ أضع خلاصة هذه التجربة علّها تفيد من قد يمر بمثل مرحلتي السابقة من النفور من القراءة.

البدء بأهداف قصيرة

في بداية يناير وضعت تحدي العام على Goodreads لقراءة عشرين كتاباً في السنة (كان رقماً كبيراً مقارنة بقراءتي لثلاثة كتب فقط في 2021).ما أن انتهى مارس، حتى وجدت نفسي قد أتممت عشرين كتاباً. وضعت هدفاً جديداً، عشرون كتاباً إذاً كل ربع سنة، ومع منتصف الربع الثالث كنت قد أنهيت هدفي بقراءة 80 كتاباً وما زالت قائمة قراءاتي طويلة. 

تشجعت أن أقرأ أكثر، وأن أحقق الرقم المئة لأول مرة، وما أن جاء أكتوبر حتى أنهيت المئة وما زال للعام بقية. تجاوزت اهتمامي بكم كتاباً قرأت واستمريت على عادات القراءة التي كسبتها في هذا التحدي. لم تعد القراءة بالنسبة لي تحدياً عددياً، بل عادة أحتاج إليها في يومي، أسلوب حياة ارتبطت به أيامي، وملاذاً من فوضى العالم.

أخذ الأمر كتحدي 

ساعدني تطبيق Goodreads على أن تعلق كلمة ”تحدي“ في رأسي طيلة العام. بخاصية فيه تسمح بوضع هدف قراءة محدد للعام ثم تظهر نسبة مئوية في كل مرة أضيف كتاباً على قائمة قراءاتي. كنت في تحدي مع تلك النسبة المئوية للإنجاز، كانت تدفعني في كل مرة إلى أن أقرأ أكثر، وأن لا أتكاسل في إنهاء كتابي الحالي لأدفع برقم جديد في التحدي وأكسب. ضد من كان هذا التحدي؟ لم يستعمل الكثير من أصدقائي موقع Goodreads ولم أجد فيه تفاعلاً أو حماساً من أحد، كان التحدي بيني كقارئة نهمة وبين ذاتي السابقة التي اعتقدت يوماً أنه لا يوجد وقت كافٍ للقراءة في حياة البالغين.

ومع كل انشغالاتي هذا العام التي لم تتغير كثيراً، احتفظت بمتابعة أسبوعية للتحدي، ولم أتوقف عن القراءة سوى في شهر رمضان. أضاف لي Goodreads حماساً متجدداً خلال العام لقراءة المزيد من الكتب في كل مرة أتكاسل فيها أو أنشغل، وجعلي فضولي متقداً دوماً للكتب الجديدة.

تنويع طرق القراءة 

الرتابة هي ما تجعل القراءة مملة أحياناً، وكنت أكسرها بعدة طرق من بينها تنويع أدوات القراءة. كانت لي تجربة ممتازة مع الكتاب الصوتي هذا العام لخصتها في تدوينة سابقة. وتحصلت على جهاز كيندل كهدية مطلع العام ما ساعدني على التنقل بالكتب في السفر والقراءة في الظلام والوصول للكتب المثيرة للاهتمام التي لم أملكها ورقياً. بالنسبة للكتب الفكرية الدسمة فقد قرأتها على اللاب توب غالباً، كي يتسع لي التركيز على قرائتها وكتابة الملاحظات وتسجيل بعض النقاط والأسئلة والبحث عن إجابات على الانترنت. أما الكتاب الورقي فكان رفيقي طيلة الوقت. 

متابعة القراءة “كيف قرأت مئة كتاب في 2022؟”

اسطنبول مدينة الذكريات

أوّل تدويناتي في مدونتي هنا كانت عن مدينة إسطنبول، في ذاك الوقت لم أكن أتخيّل أنني كنت سأزورها وأقيم بها فترة من الزمن. وبفضل إليف شافاق وروايتها “لقيطة إسطنبول” كنت قد زرتها في خيالي وجلست أشرب الشاي أمام البسفور قبل أوّل زيارة واقعية لها في شهر العسل. زيارتي لإسطنبول الواقع كما الخيال جعلتني أقع في حبّها وأشعر بعظمتها وجمالها وتناقضاتها الحادة. زرت إسطنبول عدة مرات خلال السنوات الماضية، ولمدة ليست بالطويلة انتميت إليها أحد أحياءها وغصت في ثقافتها حدّ الرغبة في الاندماج، لكنّ هذه المدينة القوية والضخمة تحتفظ بنفسها لأهلها وتذكرك في كل زاوية منها بغربتك. وفي إسطنبول وحدها تعلّمت معنى الانتماء، وما الذي يجعل الوطن وطناً، وكيف يمكن أن تطردك مدينة بأسرها لأن مدينتك الأولى تملأ كل زوايا قلبك دون أن تدري.

كمية الغربة التي شعرت كل مرة عند وجودي بإسطنبول كانت بسبب علمي جيداً أنني لا أعرفها بما يكفي، فالتفاصيل والملامح القديمة والبيوت المتهالكة أو الملونة أو الخشبية كانت مليئة بقصص لم تُسرد عليّ يوماً. هي مدينة تعبق بحكايات سرية وحزينة لا تمنحها للغرباء المتطفلين، إنما تلوح لنا ببعض من جمالها في صمت عمّا وراءها من خبايا. وحده أورهان باموق استطاع أن يمسك ببعض من هذه القصص، ويسرد لنا -ولي أخيراً- حكايات وروح ومزاج هذه المدينة العصيّة على البوح.

في كتابه “إسطنبول الذكريات والمدينة” يكتب أورهان باموق سيرته الذاتية داخل سيرة المدينة الذاتية، وذلك بين الخمسينات ونهاية السيتنات. نقرأ أورهان الطفل والمراهق والشاب، وإسطنبول الفتيّة التي تخرج من قلب العجوز العتيقة. لا يكتب باموق عن إسطنبول برومنسية الرحّالين أو ذهول المستشرقين أو حماس السيّاح، هو يكتب عن مدينته، وبكل حميمية وقرب ممكن حدّ ذوبان هويته في هويتها.

ليست هذه التدوينة مراجعة للكتاب، إنما أردت أن أقبض على بعض ملامح إسطنبول التي رأيتها بعينيّ باموق ومن تجربتي الخاصة. أمسك ببعض الزوايا التي رأيت فيها المدينة الحديثة اليوم في قلب المدينة القديمة التي يحكي عنها باموق في كتابه. مثل الإحساس عند التنزه في البوسفور، طعم الشتاء الحزين، الجمال في لون الثلج وعيون الغرباء. أشارك بعضاً من صوري التي التقطتها عبر زيارات للمدينة التي أحببت، مع قليل من ما شاركت باموق الشعور به بينما أعيش في قلب المدينة.

شتاء إسطنبول

أحببت شتاءات اسنطبول دائماً أكثر من أصيافها. كنت أحبُّ الفرجة على المساء الذي يحلُّ باكرًا، والأشجار العارية المرتجف” بتأثير الهواء الشمالي الشرقي، والناسَ العائدين إلى بيوتهم بسرعة في الأزقة شبه المظلمة وهم يرتدون السترات والمعاطف السوداء في الأيام التي تصل الخريف بالشتاء. كانت جدران الأبنية القديمة والدور الخشبية المهدمة، التي يعطيها إهمالها وعدم طلائها لوناً إسطنبوليًّا خاصَّا، تثير فيّ ذائقة فرجةٍ وهمٍّ أستمتع بهما. ألوان الأسود والأبيض أيام الشتاء، والناس العائدين إلى بيوتهم مسرعين إثر المساء الذي يحلُّ مبكرًا، تثير فيّ شعورًا بأنني أنتمي إلى هذه المدينة. وأنني أشارك هؤلاء الأشخاص أشياء ما. كأن ظلام الليل  سيغطي على فقر الحياة والشوارع والأشياء. وعندما نتفس جميعنا داخل البيوت وفي الغرف والأسرّة، أشعرُ بأننا سنندمج بالخيالات والأحلام المكونة غنى إسطنبول السابق الذي صار بعيدًا جدًا، ونيتها وأساطيرها المفقودة.”

البوسفور:

“متعة التنزه في البسفور هي احساسكم بحرية وجبروت بحر عميق وقوي ومتحرك في أثناء تحرككم على ساحل مدينة كبيرة وتاريخية مهملة. المسافر المتقدم بسرعة في تيار مياه البسفور يشعر بأن قوة البحر قد عبرت إليه من وسط قذارة مدينة مزدحمة جدًّا بدخانها وضجيجها، ويشعر أن بالإمكان أن يبقى حرًّا ووحيدًا، حتى الآن، داخل هذا الزحام والتاريخ والأبنية كلها. لا يمكن مقارنة الجزء المائي المتدفق وسط المدينة هذا بقنوات ”أمستردام“ و“البندقية“ أو بالنهرين اللذين يفصل كل منهما ”باريس“ و“روما“ إلى جزءين: المكان هنا عميق ومظلم، وفيه تيار، ومتماوج. إذا وضعتم دفق التيار خلفكم، أو إذا بدأتم بالانجراف معه إلى جنب كالسرطان بجهة خطوط المدينة؛ تمر من أمامكم الخالات اللواتي يشربن الشاي في شرفاتهن، والأبنية، والبيوت الساحلية، والرصيف القريب من المقهى المسقوف كالخيمة، والأولاد الذين يدخلون إلى البحر بسراويلهم الداخلية في الأمكنة التي تفرغ فيها أنابيب المجارير، ويتمددون على الأسفلت ليتشمسوا، وصيادو السمك على الساحل، والمتمشون على سفن الشحن، والتلاميذ السائرون على طول الساحل، وقد خرجوا من مدارسهم حاملين حقائبهم بأيديهم، وركاب الحافلات الناظرون إلى البحر من النوافذ عند ازدحام المرور،…“ 

متابعة القراءة “اسطنبول مدينة الذكريات”