يتداول مستخدمو الفيسبوك والمهتمين بالثقافة والفن جملة مقتطعة تُنسب للأديب الليبي الكبير إبراهيم الكوني. ويشنون حالياً هجوماً استجوابياً يُحاكم الكوني لاختياره كلمات لا يرون فيها احتراماً لعلاقة الأديب بوطنه، ووطننا. ورأيت في الهجوم تحاملاً ومحاكمة غريبة لمقولة واحدة لا يمكن أن نختزل فيها إنساناً وفكره، خصوصاً وأنّ هذا الإنسان بالذات كتب أكثر من 80 مؤلفاً مبينة على علاقته القوية بالوطن وبيئته، بيئة الصحراء.
هذه المقولة المتداولة عن إبراهيم الكوني هي عن مقال قصير جداً أقرب لمقال الرأي منشورة على موقع “المدن” عام 2016 وهي ليست مقابلة صحفية كما يتضح وتفتقر لأدوات اللقاء الصحفي. فالكاتب ينقل حديثاً عادياً وعابراً داخل سيارة مع الكوني خلال زيارته لحدث ثقافي في القاهرة. ولا يبدو أنها مقابلة صحفية، بما تحمله المقابلة من موافقة الكاتب قبل نشر حديثه للصحافة، وبناءاً على ذلك وعلى مقابلات عدة ومؤلفات عدة للكوني لا يبدو أن الصحفي قد نقل أو فهم المقصود من حديث الكوني داخل السيارة.
وآسفني أن أبناء بلدي يكثفون اهتماما فجائياً ودقيقاً جداً لأحد الحوارات -غير الصحفية- لإبراهيم الكوني ويلخصون فكره نحو الوطن والهجرة والانتماء في جملة عابرة، كما لو أنها أهم من كل كتبه ومقابلاته الصحفية والتلفزيونية التي عبّر فيها بشكل عميق ومركز عن فلسفته وانتماءه وعلاقة الإنسان بالمكان والهوية والحياة.
يقول الكوني في مقابلته عام 2019 في برنامج بيت ياسين: “مشكلة العقلية السائدة أنها مهتمة بالشخص وليس بالنص”. وهذا ما يحدث اليوم عندما فجأة يصبح الجميع مدققين في جملة واحدة لأديب عالمي ونضع أحكامنا على شخصيته ونعلن عدم رضانا على “اختياره للكلمات” في حديث عابر غير صحفي. وهو ما جعلني أتساءل، ما الذي نحاول أن نثبته؟ فلا أجد أنّ لأدب إبراهيم الكوني انتشاراً اجتماعياً في المجتمع الليبي، ولا اهتماماً ثقافياً واسعاً حتى يكون هناك متابعون بهذا الإخلاص الدقيق لحواراته. فلماذا اليوم نستجوب فجأة علاقته بالوطن؟
حين ننظر لخريطة العالم في الأدب فنجد أنّ روايات إبراهيم الكوني فعلاً صنعت اسماً لليبيا في العالم الأدبي، وذلك لانتشار ترجماتها تقريباً لأربعين لغة وهو انتشار لم يصل له أي أديب ليبي سبقه أو تلاه. والكوني أديب مهاجر من ليبيا منذ نهاية الستينات، درس وعمل وأنتج إبداعه في الخارج. فما الذي نريد قوله حينما نتهمه بالترفع عن وطنه؟ ولماذا نستغرب ملامح الاغتراب فيه وهو المغترب فعلاً؟
لا يوجد حدث أدبي أو ثقافي جديد يضع الكوني في واجهة النقاش اليوم، ومن الغريب أن تُقتبس فجأة مقالة غير مهنية لحوار غير صحفي عنه ويبدأ الجميع في التفتيش عن ولاءاته الوطنية ومواقفه السياسية، هو الأديب الذي قرر أن يكون بعيداً عن السياسة ويتفرغ للأدب والإبداع من سنوات.
ولكن ما أثار انزعاجي هو اعتقاد الكثيرين أن جملة واحدة يمكن أن تختصر انتماء الكوني ومشاعره تجاه الوطن. فنجد من يقف ليسرد أفضال ليبيا عليه (وإن كان الكثير منهاً حقوقاً وتكريمات لأديب يلاقي التكريم من جميع أنحاء العالم) كما لو أنّ الكوني ظهر اليوم وأنكر انتماءه للوطن. وكما لو أننا لا نتابع ولا نقرأ للكوني ولا نشاهد مقابلاته وحواراته. هو الذي يتحدث في مقابلة عام 2019 مع الإعلامية فدوى أبو عامر بحنين وحب لليبيا. وهنا أقتبس جملاً من المقابلة:
“المفارقة هي أننا لا نحب أوطاننا كما يجب أن تحب، ما لم نغترب عن أوطاننا كما يجب أن نغترب”
“الآن بعد أن اغتربت عن وطني واستفقدته أعرف ما معنى أن يموت الإنسان حنيناً في سبيل الفوز بالوطن.
“الوطن دائماً هم وجودي. يتحول لمرض في النهاية، ولكنه مرض مطهر في نهاية المطاف.”
“كل الإبداعات في مديح الوطن”
لا يحتاج الكوني منشوراً مني ولا من أحد ليدافع عن حبه وانتماءه للوطن كما ننتمي له جميعاً، ولكن نحتاج أحياناً أن نتوقف عن إصدار الأحكام واستجواب انتماءات الآخر المختلف عنّا (وخاصة المبدع في مجتمعنا) ونسمح لأنفسنا بسماع وقراءة أفكاره وفكره وكلماته عوضاً عن أن ننتظر هفوات أو جمل ناقصة منتشرة على السوشال ميديا والصحافة غير المهنية.
لمن يبحث فعلاً عن إبراهيم الكوني كما هو، وليس كما يريده أن يكون، أرفق هنا لقاءاته الأخيرة الذي تحدث في إحداها عن الأدب والسلطة، وعلاقته بجائزة القذافي للآداب، وكذلك أرفق إحدى الدراسات عن كتاب “الورم” الذي رمز فيه إلى أفول كل من يحكم بغير عدل ويتجبر بامتلاك السلطة واعتبره البعض توقع لسقوط سلطة القذافي.
حوار ياسين عدنان مع إبراهيم الكوني في برنامج “بيت ياسين”
حوار فدوى أبو عامر مع إبراهيم الكوني في برنامج “مع فدوى”
الجزء الأول
الجزء الثاني
صفحة ويكيبديا عن إبراهيم الكوني وإنتاجه الأدبي
11